آذان النساء في إسطنبول | قصّة

 

كان الأمر مدهشًا بالنسبة لشابّ مثلي في السابعة والعشرين، لم يرَ في حياته إلا قرطيّ جدّته الكبيرين، وأذنيها اللّاتي يُشبهنَ سمّاعات عربات الإذاعة. ولأنّ نساء مدينتي كنّ يخفن على آذانهنّ من العيون والكلمات، فأنا لم أرَ أذنيّ امرأة واحدة في حياتي قبل المجيء إلى إسطنبول.

بعد مضيّ أيّام على دخولي هذه المدينة، ولدتْ لي عينان كبيرتان كتفّاحتين، تكفيان لرؤية آذان المئات من النساء. حدث هذا  في صباح يوم سبت مملّ كنت أقف فيه بمحطّة «igs» الموجودة في أفجلار، منتظرًا الباص الّذي سينقلني إلى عملي. كانت أقدام الشتاء تركض مسرعة للربيع، والبرودة تأتي وتذهب مثل أمل كَتَبَ عنه محمود درويش ولم يعرفه أحد سواه. ولأنّ ’باص458‘ باص لعين، حصد جسدي كمّيّة مهولة من هذه البرودة/ الأمل.

تسبّب هذا الباص اللعين أيضًا في تدخيني لسيجارتين Marlboro Touch Blue، ودخولي إلى الفيس بوك ثلاث مرّات، ورؤيتي لصورتين عن إحصائيّات الخسائر الروسيّة في أوكرانيا على الأنستقرام، وقراءتي لخبرين استشهاد فلسطينيّين على حواجز البلاد. تأخّر الباص أكثر فكتبت ردًّا على رسالة من صديقة قديمة سألتني عن جدوى العيش في حظيرة لتربية البشر، وأرسلت تسجيلًا صوتيًا أطمئن فيه أمّي عليّ وأخبرها أنّني أرتدي الكنزة الشتويّة الثقيلة.

ثمّ جاء الملعون، فتجمّع الناس أمام فمه الّذي ابتلع عددًا لم أدركه من البشر، ربّما كانوا عشرين امرأة ورجل واحد، أو عشرين رجل وامرأة واحدة. الشيء الوحيد الّذي أدركته حينها، هو العينان اللّتان نبتتا أسفل رمشيّ.

قبل تلك اللحظة، كنت أربط أقراط النساء بالأفلام الأجنبيّة، حتّى أنّني تيقّنت من عدم وجود آذان إلّا لممثّلات هوليوود والمسرحيّات في إسبانيا. لكن بعدما أصبح لي عينان، رأيت أوّل أذن امرأة حقيقيّة في حياتي – غير جدّتي طبعًا -  فلم تهزّني حينها برودة الطّقس بل نشوة تحسّستها على ملابسي.

كنت أقف خلفها مباشرة، كانت الأذنان تحملان فراشتين كبيرتين، وكنت لأوّل مرّة في حياتي أرى فراشتين محلّقتين، فالفراش في بلادي لا يطير، كون التحليق فيها يقتصر على الزنّانة وصواريخ الـ F16 والخوف.

فضلًا عن قدرة الفراشة اليمنى الّتي كانت قبالة عينيّ على الطيران، فقد امتلكت أرجلًا بيضاء طويلة، بأظافر حمراء تزداد فقاعة كلّ ثانية، وكلّما مشت خطوة بصندلها الذهبيّ المرقّط، طقطق الكعب الصغير في قلبي ثلاث مرّات على وتر الصول.

امتلكت الفراشة وجهًا أبيضًا، وكان لها خصر يشبه خنزير الزيتون الّذي لطالما واظب أبي على خلعه والتحذير منه. كَذَبَ أبي وصَدَقَ الخصر، وكَذَب الخصر وصَدَقَ قلبي، وكَذَبَ قلبي وصَدَقت أذنيها... وأذن النساء في إسطنبول لا تكذب.

مشت الفراشة بطقطقتها الّتي لم يسمعها غيري، وصعدت درجة الباص الأصفر الوحيدة، طقّة أخرى ليس للكعب الصغير ولكن لشاشة الدفع في الباص، ثمّ تتالت الطقّات في قلبي لتُكَذّب حديث أبي عن الحياة، وعن جدوى السعي من أجل الوصول.

فعلت كما فَعَلَتِ الفراشة تمامًا، ثمّ خدمني حظّي التعيس وأجلسني إلى جوارها. ثمّ خدمني مرّة أخرى عندما كان الطريق مزدحمًا، فأصبحت العشرون دقيقة الّتي يحتاجها الباص، أكثر من ثلاثين دقيقة. لم يصل ‘458’ إلى محطّة «fatih sultan Mehmet» الواقعة في حيّ يعقوبلو في بيليك دوزو، الّتي تجاور باب الشركة الّتي أعمل بها. كانت هذه المرّة الأولى الّتي أكتشف فيها إسطنبول، وأعرف أنّها أطرى من قطعة الحلقوم الّتي أكلتها في «محلّ حافظ إبراهيم» بشارع الاستقلال.

لم أتخلّ يومًا عن مبادئي في الحياة، لهذا كنت أعلّق حقيبتي البنيّة الصغيرة على كتفي. حينها... حملت الحقيبة عن اليمين ووضعتها في حجري، فتحتها وأخرجت مجموعة «هندسة العالم» لمحمّد عبد المنعم زهران، وبحركة اعتياديّة تمامًا، فتحت الصفحة الّتي وصلت إليها الّتي كانت تحمل رقم 27. ومصادفة كانت هذه الصفحة جزءًا من القصّة الّتي استحلّ اسمها عنوان الكتاب.

تتحدّث القصّة عن امرأة عجوز – ربّما كانت جدّتي - يخافها الناس ويفرّون هربًا منها على الدوام. هذا ليس مهمًّا... المهمّ، أنّ الجملة الّتي وقعت عليها عينيّ تقول: "وضعتْ يدها على خدّها، وشردت..". هذا ما حدث بالفعل، وضعتِ الفراشة يدها على خدّها، وشردت... كانت تطير فوق سبعة وعشرين سنة لم أرَ فيها أذنيّ امرأة.

لم أجرِ معها أيّ حديث قطّ، فما الّذي يجعل رجلًا غزّيًّا يفتح حديثًا مع امرأة! دفعني الخوف وربّما الشرود لإغلاق صفحة الكتاب، وتنحنحت مرّة واثنتين وثلاثة دون صوت. تأمّلت الفراشة الّتي كانت مخطّطة بقلم سميك، والّتي بدتْ مقسّمة عبر ثلاثة خطوط عريضة كأجنحة يمامة. ومن كلّ خطّ من وسط هذه الخطوط الثلاثة، تدلّت فراشتين واحدة أكبر من الأخرى بمقدار نظرة.

دخلت الدقيقة الأربعون لي في الباص، و«هندسة العالم» الّتي كنت اكتشفها حينها، نسفت جدليّة كون الأرض بيضاويّة أو مسطّحة، وأكّدت لي أنّه ليس الأرض فقط، بل الكون كلّه مفرّش - من الفراش.  نظرت الفراشة إلى هاتفي الّذي كان يجلس على أرضيّة الباص، فتنبّهت من عينيها إلى رنينه. ثمّ كان صوت المدير آتيًا من قرية بعيدة: العميل وصل، ونحن في انتظارك لنبدأ الاجتماع، وينك لهلأ!

مباشرة لعنت ’باص 458‘ دون صوت، وتلكّأت معتذرًا ومرجعًا تأخّري إلى ازدحام الطريق بالفراش. قال المدير: الفراش! فقلت: أقصد ازدحام الطريق بالسيّارات... سأصل، أعطني خمس دقائق فقط. وألحقت كلامي باعتذار أنيق فتقبّل المدير على مضض. وبمجرّد  انتهاء المكالمة، كانت الفراشة تطير أمامي.

طارت أوّل فراشات حياتي، وعندما انتبهت إلى أنّ باب الباص يوصد وراء فراشتي، لمحت لوحة الباص الّتي يبرز منها رقم الباص وأسماء المحطّات. الباص الملعون خدعني للمرّة الألف، فاللوحة كانت تقول أنّ الباص رقمه 418 وليس 458، فانتبهت إلى أنّ الطريق لم يكن طريق الذهاب إلى العمل، بل طريق الذهاب إلى الفراش... وأنّني لم أسمع اسم المحطّة بسبب هجوم الفراش على عيني الجديدتين... وأنّ إسطنبول مدينة تجعل الواحد يشعر بحلاوة الحلقوم دون إطعامه إياه، وأنّها مدينة تكثر المزاح مع المولودين حديثًا.

في آخر الشّهر... استلمت راتبي... كان ناقصًا قراطين كبيرين يشبهان الألفي ليرة. في الأشهر التالية... خُصِمَت منّي أقراطًا كثيرة، حتّى بتِّ أمتلك مزرعة فراش في جيبي.

 


 

عامر المصري

 

 

 

كاتب وقاصّ وُلِدَ عام 1995 في مدينة خانيونس. صَدَرَت له مجموعتين قصصيّتين عن «مكتبة سمير منصور» بعنوان: «ثلاثة يحاصرونني» (2018) و«حافر القبر القادم» (2019)، وصدرت له رواية بعنوان: «ممحاة سيّدي أزرق» (2019).